توطئة:
قبل أن أشرع في الحديث عن الموضوع ألقوا نظرةً على هذا الحوار:-
زيد: ما هو أجمل ما قيل في الغزل ؟
عمرو: ألم تسمع قول الشّاعر:
واسْتَمْطَرتْ لُؤلُؤاً منْ نَرجسٍ وسَقَتْ ،، وَرْداً وعَضّت على العنّابِ بالبَرَد
زيد: أحسنت وجميل … لمن هذا البيت البديع ؟
عمرو: هو لـ ….. لحظَه وأتذكّرهُ ….. يالله! ….. كان اسمهُ على طرفِ لساني!!
هل يبدو لكم هذا الحوار مألوفاً ؟
هل مرّ أحدكم بمثل ما مرّ به عمرو قبلاً ؟
أوليس شعوراً محبطاً ؟
لا يكاد يسلم أحدنا من هكذا موقف تكون المعلومة حاضرة مستحضرة في باله ثمّ تختفي في لحظات فيقضي وقته ويشغل باله محاولاً أن يستعيد تلك المعلومة الهاربة ، فربما تذكّر الكلمات التي قبلها أو أوّل حرف منها ، أو حتّى كلمات تشبهها أو تقارب معناها !
كم هو شعور مزعج ومؤلم في نفس الوقت، كصداع يعقب هروب العطاس في آخر لحظة بعد أن دغدغ أنفك!
مقدّمة:
كم أرّقتني هذه الظاهره كثيراً ، وكثيراً ما وضعتني في مواقف محرجه لا أحسد عليها! وقد رأيت كثيراً من الناس كثيراً ما يردّدون هذه العبارة ” كانت على طرف لساني “.
حتّى عزمت أمري بأن أبحث عن هذه الظاهرة، فوجدت أن هناك ظاهرة تدعى بـ:-
TOT : Tip of Tongue
وتعني: على طرف اللسان
وهي ظاهرة طبية مسجلة بحثها العلماء قديماً وأُجريت العديد والكثير من التجارب حولها ووصفها هو:
“تأتي هذه الظاهرة عند محاولة الشّخص تذكّر كلمة معيّنه فلا يستطيع استرجاعها من الذاكرة أو قد يسترجع جزءاً من الكلمة، وقد يتذكّر كلمات تشابه لهذه الكلمة في الشكل أو عدد الأحرف أو نغمتها (فنون، جنون) أو حتى كلمات تقاربها في المعنى (جميل، بديع)”
ولا نشعر بالارتياح إلّا إذا وجدنا بغيتنا وضالتنا وقد نتذكر ما نبحث عنه في لحظته أو بعد ساعات أو ربّما أيّام!
نظرة تاريخية للظّاهرة:
كان أول من ناقش هذه الظاهرة هم علماء النّفس من أبرزهم سيجموند فرويد، وإلى جانب علماء النفس ناقش هذه الظاهرة علماء اللغويات، لكن أوّل من درس هذه الظاهرة بشكل كبير وموسّع هما العالمان روجر براون وديفيد ماكنيل الذان كانا يدرّسان في جامعة هارفرد وقد نشرا بحثهما عام 1966م.
بيْدَ أنّ أوّل ظهور لمصطلح ” على طرف لساني ” كان من وضع العالم النفسي وليام جيمس في عام 1890م.
نتائج دراسة الظاهرة:
يرى العلماء أن هناك ارتباطا كبيرا بين هذه الظاهره وأداء الذاكرة ويرى آخرون أن الارتباط بين اللغة وهذه الظاهرة أكبر، ولم يحسم العلم الأمر حتى مع تطوّر التقنية فقد يكون الأمر مرتبطا بخلل في الذاكرة أو لسبب نفسي تختلف الأسباب وتتعدّد!
فعلى سبيل المثال الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب، كان كثيراً ما يخطئ في بعض المصطلحات والكلمات وقد كان كثيراً ما يتوقّف للبحث عن الكلمات المناسبة مع أنه لم يكن ينقصه لا الذكاء ولا المعرفة!
بينما نجد ابنه جورج بوش الابن كثيراً ما يقع في أخطاءٍ جسيمةٍ في نطق الكلمات واستخدام كثيرٍ منها في المكان الغير مناسب لها والتي تنم عن جهلٍ وقلّة معرفةٍ أكثر من كونها فشلاً في استدعاء معلومة من الذاكرة!
وقد وجد العلماء عدّة أمورٍ بعد دراسة هذه الظاهرة وقد أجروا التّجارب على الجنسين وجميع المراحل العمريّة وعلى أحاديّي اللّغة وثنائيّي اللّغة ومتعدّدي اللّغة، وكذلك على أكثر من 40 لغةٍ مختلفةٍ عن الإنجليزيّة فوجدوا أنّ الظّاهرة:
- تحدث في مراحل الطفولة وأوائل مراحل البلوغ ومراحل الرّشد.
- يزداد تكرار هذه الظاهرة مع التقدّم في السن.
- تحدث للجنسين ولا فرق بينهما.
- تزداد عند من يتعلّم أكثر من لغة.
- ولا تختص الظاهرة بلغة دون أخرى.
- هذه الظاهره طبيعية جداً.
وتقول د. كيرين إيموري من جامعة سان دييغو بأن هذه الظّاهرة تحدث بسبب عدم القدرة على استخراج الكلمة المطلوبة من الذاكرة، مع أننا نستطيع أن نستحضرها في أذهاننا ولكن دون أن ننطق بها وهذا الحجب للمعلومة في الذاكرة يكون بسبب انشغال المخ بإيجاد كلمات مشابهه لها في الصوت أو المعنى مما يؤدي إلى حجب المعلومة عنّا ويسمّى هذابـ(phonological blocking) الحجب أو الحظر الصّوتي.
بل أنّ الدّكتورة وجدت أن حتّى من يستخدمون لغة الإشارة يعانون من ظهور هذه الظّاهرة سواءاً كانوا من الصّمّ أم ممّن يتقنون اللّغة مع قدرتهم على التّحدّث، وتسمّى هذه الظاهرة لدى الصم بـ (TOF: Tip of the Finger) (على طرف الإصبع).
كما أن التفسير الذي قدّمته الدّكتورة لهذه الظّاهرة أنّ حدوثها يكون بسبب حجب المعلومة عن الإستدعاء سواء كان للغة الإشارة أو للّغات المنطوقة وهذا أمر محتمل، لكنّها استبعدته وتعلل ظهور هذه الظاهره بالنّسيان، أي أنّنا نعاني من هذه الظّاهرة بسبب قلّة استخدامنا لكلمة معيّنة يجعلنا ننسى كيف ننّطقها أو نعبّر عنها.
وفي دراسة أخرى للعالمة النفسيّة د.دونا دالغرين من جامعة كينت الأمريكية بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذه الظّاهرة وبين آلية عمل الدّماغ وخصوصاً الذّاكرة، فكثيرٌ من المعلومات يتم تخزينها في الذّاكرة الدّائمة ولكننا لا نستطيع الوصول إليها واسترجاعها إمّا بشكل دائم أو مؤقّت!
وهذا يعود إلى كيفية تخزين المعلومة، فالعقل لا يخزّن الكلمات كما يفعل القاموس اللغوي فالعقل أكثر مرونه فهو يربط البحث إما بعدد الأحرف أو بصوت الكلمة أو حتّى بمعانٍ مشابهةٍ ومقاربةٍ.
ونكون هذه الظاهرة في حدود المعقول ما كان ظهورها وتكرّرها في كلمات لا نستخدمها كثيراً أو بشكل يوميّ، وتصبح هذه الظاهرة مرضاً أو اعتلالاً إذا زادت عن الحد الطبيعي، فالعلماء يقولون أنها تحدث للشخص البالغ مرّة كل أسبوع على أقلّ تقدير.
محفّزات الظّاهرة:
كما أنّ هناك أموراً تعزّز من ظهور هذه الظّاهرة وتجعل من حدوثها وتكرارها أمراً محتملاً:
- عدم استخدام الكلمة لفترة طويلة.
- التقدّم في العمر.
- بعض المواد الكيميائية والأدوية ( الكافيين ).
- الحالات العاطفية ( كالغضب ).
- تعلّم أكثر من لغة.
- إصابات في الدماغ.
خاتمة:
لم يصل العلم حتى الآن إلى موضع قدم صلب وتفسير علمي دقيق وواضح رغم تقدّم العلم وتطوّر التقنية، فلكل أهل اختصاص تفسير ورؤيةٌ تختلف عن الآخرين، وذلك لصعوبة وتعقيد عمل الدّماغ وكذلك الغموض الذي يعتري النّفس البشريّة ويحيط بها.
فسبحان الله العظيم كيف أتقن خلق هذا الإنسان، فالرّبّ العليّ يقول:
{ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ }-21-الذّاريات
**عمرو:…… تذكّرت! القائل هو يزيد بن معاوية